سورة محمد - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


هذه السورة مدنية عند الأكثر. وقال الضحاك، وابن جبير، والسدي: مكية. وقال ابن عطية: مدنية بإجماع، وليس كما قال، وعن ابن عباس، وقتادة: أنها مدنية، إلا آية منها نزلت بعد حجة، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي: {وكأين من قرية} الآية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جداً.
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}: أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام، أو صدوا غيرهم عنه، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: وهم المطعمون يوم بدر. وقال مقاتل: كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر، وقيل: هم أهل الكتاب، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقال الضحاك: {عن سبيل الله}: عن بيت الله، يمنع قاصديه، وهو عام في كل من كفر وصد. {أضل أعمالهم}: أي أتلفها، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع، بل ضرر محض. وقيل: نزلت هذه الآية ببدر، وأن الإشارة بقوله: {أضل أعمالهم} إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر. وقيل: المراد بالأعمال: أعمالهم البرة في الجاهلية، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك؛ واللفظ يعم جميع ذلك.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات}: هم الأنصار. وقال مقاتل: ناس من قريش. وقيل: مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هو عام؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن. {وآمنوا بما نزل على محمد}: تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به، تعظيم لشأن الرسول، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به. وأكد ذلك بالجملة الأعتراضية التي هي: {وهو الحق من ربهم}. وقيل: {وهو الحق}: ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ. وقرأ الجمهور: نزل مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي، وابن مقسم: نزل مبنياً للفاعل؛ والأعمش: أنزل معدى بالهمزة مبنياً للمفعول. وقرئ: نزل ثلاثياً. {كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}: أي حالهم، قاله قتادة؛ وشأنهم، قاله مجاهد؛ وأمرهم، قاله ابن عباس. وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب. فإذا صلح ذلك، فقد صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم، وغير ذلك من الحال تابع.
{ذلك}: إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم، وبالمؤمنين من تكفير سيآتهم وإصلاح حالهم. وذلك مبتدأ وما بعده الخبر، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك، أي كما ذكر بهذا السبب، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً. انتهى. ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار.
والباطل: ما لا ينتفع به. وقال مجاهد: الشيطان وكل ما يأمر به؛ والحق: هو الرسول والشرع، وهذا الكلام تسميه علماء البيان: التفسير. {كذلك يضرب}: قال ابن عطية: الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين، أي كما اتبعوا هذين السبيلين، كذلك يبين أمر كل فرقة، ويجعل لها ضربها من القول وصفها؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع. وقال الزمخشري: كذلك، أي مثل ذلك الضرب. {يضرب الله للناس أمثالهم} لأجل الناس ليعتبروا بهم. فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين؛ أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئآت مثلاً لفوز المؤمنين.
{فإذا لقيت الذين كفروا}: أي في أي زمان لقيمتوهم، فاقتلوهم. وفي قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي في أي مكان، فعم في الزمان وفي المكان. وقال الزمخشري: لقيتم، من اللقاء، وهو الحرب. انتهى. {فضرب الرقاب}: هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر، وهم مطرد فيه، وهو منصوب بفعل محذوف فيه، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل: هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر؛ وقيل: هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه، ومثاله: ضرباً زيداً، كما قال الشاعر:
على حين ألهى الناس جل أمورهم *** فندلاً زريق المال ندل الثعالب
وهذا هو الصحيح، ويدل على ذلك قوله: {فضرب الرقاب}، وهو إضافة المصدر للمفعول، ولو لم يكن معمولاً له، ما جازت إضافته إليه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل؛ ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، عبر بذلك عن القتل، ولا يراد خصوصية الرقاب، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء. ويقال: ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه، إذا قتله، كما عبر بقوله: {بما كسبت أيديكم} عن سائر الأفعال، لما كان أكثر الكسب منسوباً إلى الأيدي. قال الزمخشري: وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. وقد زاد في هذه في قوله: {فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} انتهى. ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين، وأنهم من الكفار بحيث هم متمكنون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم. {حتى إذا أثخنتموهم}: أي أكثرتم القتل فيهم، وهذه غاية للضرب، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى، {فإما مناً} بالإطلاق، {وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}: أي أثقالها وآلاتها. ومنه قول عمرو بن معدي كرب:
وأعددت للحرب أوزارها *** رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
أنشده ابن عطية لعمرو هذا، وأنشده الزمخشري للأعشى. وقيل: الأوزار هنا: الآثام، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين، وهذه الغاية.
قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم. وقال قتادة: حتى يسلم الجميع: وقيل: حتى تقتلوهم. وقال ابن عطية: وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبداً، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها، فجاء هذه، كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد أنك تفعله دائماً. وقال الزمخشري: وسميت، يعني آلات الحرب من السلاح والكراع، أوزارها، لأنه لما لم يكن لها بد من جرها، فكأنها تحملها وتستقل بها؛ فإذا انقضت، فكأنها وضعتها. وقيل: أوزارها: آثامها، يعني حتى يترك أهل الحرب، وهم المشركون، شركهم ومعاصيهم، بأن يسلموا. والظاهر أن ضرب الرقاب، وهو القتل مغياً بشد الوثاق وقت حصول الإثخان، وأن قوله: {فإما مناً بعد}، أي بعد الشذ، {وإما فداء}، حالتان للمأسور، إما أن يمن عليه بالإطلاق، كما منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق ثمامة بن أثال الحنفي، وإما أن يفدى، كما روي عنه عليه السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل مسلم.
وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فذهب ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والسدي، والضحاك، ومجاهد، إلى أنها منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين} الآية، وأن الأسر والمن والفداء مرتفع، فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم. وروي نحوه عن أبي بكر الصديق، وذهب ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك، والمنّ والفداء ثابت. وقال الحسن: لا يقتل الأسير إلا في الحرب، يهيب بذلك على العدو. وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المنّ والفداء وعباد الأوثان، ليس فيهم إلا القتل، فخصصوا من المشركين أهل الكتاب، وخصص من الكفار عبدة الأوثان. وأما مذهب الأئمة اليوم: فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق؛ ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن؛ ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة، وفي ضرب الجزية. والظاهر أن قوله: {وإما فداء}، يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين. وقال الحسن: لا يفدى بالمال. وقرأ السلمي: فشدوا، بكسر الشين، والجمهور: بالضم. والوثاق: بفتح الواو، وفيه لغة الوثاق، وهو اسم لما يوثق به، وانتصب مناً وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما، أي فإما تمنون مناً، وإما تفدون فداء، وهو فعل يجب إضماره، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة، فعامله مما يجب إضماره، ونحوه قول الشاعر:
لأجهدنّ فإما درء واقعة *** تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
أي: فإما أدرأ درأ واقعة، وإما أبلغ بلوغ السؤل. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا مفعولين، أي أدوهم منا واقبلوا، وليس إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل: وإما فدى بالقصر.
قال أبو حاتم: لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته، وهذا ليس بشيء، فقد حكى الفراء فيه أربع لغات: فداء لك بالمد والإغراء، وفدى لك بالكسر بياء والتنوين، وفدى لك بالقصر، وفداء لك. والظاهر من قوله: {فإما مناً}: المن بالإطلاق، كما منّ الرسول عليه الصلاة والسلام على ثمامة، وعلى أبي عروة الحجبي. وفي كتاب الزمخشري: كما منّ على أبي عروة الحجبي، وأثال الحنفي، فغير الكنية والاسم، ولعل ذلك من الناسخ، لا في أضل التصنيف. وقيل: يجوز أن يراد بالمنّ: أي يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وكونهم من أهل الذمة.
والظاهر أن قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها} غاية لقوله: {فشدوا الوثاق}، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان. فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة، فيجوز، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها. إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار، ويجوز أن يكون المغيا محذوفاً يدل عليه المعنى، التقدير: الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي لا يبقى شوكة لهم. أو كما قال ابن عطية: إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة، أي اصنعوا ذلك دائماً. وقال الزمخشري: فإن قلت: حتى بم تعلقت؟ قلت: لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد، أو بالمنّ والفداء. فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله: أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن يكون حرب مع المشركين، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل: إذا نزل عيسى بن مريم؛ وعند أبي حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد. فالمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء، فالمعنى: أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، إلى أن تناول المن والفداء، يعني: بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين. وقد رواه الطحاوي مذهباً لأبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره، خيفة أن يعودوا حدباً للمسلمين. {ذلك} أي الأمر ذلك إذا فعلوا.
{ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم}: أي لا أنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك، من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت جارف. {ولكن ليبلو}: أي ولكن: أمركم بالقتال ليبلو بعضكم، وهم المؤمنون، أي يختبرهم ببعض، وهم الكافرون، بأن يجاهدوا ويصبروا، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرأ الجمهور: قاتلوا، بفتح القاف والتاء، بغير ألف؛ وقتادة، والأعرج، والأعمش، وأبو عمرو، وحفص: قتلوا مبنياً للمفعول، والتاء خفيفة، وزيد بن ثابت، والحسن، وأبو رجاء، وعيسى، والجحدري أيضاً: كذلك.
وقرأ علي: {فلن يضل} مبنياً للمفعول؛ {أعمالهم}: رفع. وقرئ: يضل، بفتح الياء، من ضل أعمالهم: رفع. {سيهديهم}: أي إلى طريق الجنة. وقال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطؤون، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، لا يستبدلوا عليها. وروى عياض عن أبي عمرو: {ويدخلهم}، و{يوم يجمعكم ليوم الجمع} و{إنما نطعمكم} بسكون لام الكلمة. {عرفها لهم}، عن مقاتل: أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله. وقال أبو سعيد الخدري، ومجاهد، وقتادة: معناه بينها لهم، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها. وفي الحديث لأحدكم بمنزلة في الجنة أعرف منه بمنزلة في الدنيا. وقيل: سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه، وهذا نحو من التعريف. يقال: عرف الدار وأرفها: أي حددها، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها. والعرف والأرف: الحدود. وقيل: شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها. وقال مؤرج وغيره: طيبها، مأخوذ من العرف، ومنه: طعام معرف: أي مطيب، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل.
{إن تنصروا الله}: أي دينه، {ينصركم}: أي على أعدائكم، بخلق القوة فيكم، وغير ذلك من المعارف. {ويثبت أقدامكم}: أي في مواطن الحرب، أو على محجة الإسلام. وقرأ الجمهور: {ويثبت}: مشدداً، والمفضل عن عاصم: مخففاً. {فتعساً لهم}: قال ابن عباس: بعد الهم؛ وابن جريج، والسدي: حزناً لهم؛ والحسن: شتماً؛ وابن زيد: شقاء؛ والضحاك: رغماً؛ وحكى النقاش: قبحاً. {والذين كفروا}: مبتدأ، والفاء داخلة في خبر المبتدأ وتقديره: فتعسهم الله تعساً. فتعساً: منصوب بفعل مضمر، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله: {وأضل أعمالهم}. ويجوز أن يكون الذين منصوباً على إضمار فعل يفسره قوله: {فتعساً لهم}، كما تقول: زيداً جدعاً له. وقال الزمخشري: فإن قلت: على م عطف قوله: وأضل أعمالهم؟ قلت: على الفعل الذي نصب تعساً، لأن المعنى: فقال تعساً لهم، أو فقضى تعساً لهم؛ وتعساً لهم نقيض لعى له. انتهى. وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى، لأن فيه دلالة على ما حذف. وقال ابن عباس: يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردي في النار. انتهى. وفي قوله: {فتعساً لهم}: أي هلاكاً بأداة تقوية لقلوب المؤمنين، إذ جعل لهم التثبيت، وللكفار الهلاك والعثرة.
{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله}: يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد، وذكر البعث والفرائض والحدود، وغير ذلك مما تضمنه القرآن. {فأحبط أعمالهم}: أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها. {دمر الله عليهم}: أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها.
تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمّر والهلكة، لأن التدمير يدل عليها، أو السنة، لقوله عز وجل: {سنة الله في الذين خلوا} والوجه الأول هو الراجح، لأن العاقبة منطوق بها، فعاد الضمير على الملفوظ به، وما بعده مقول القول. {ذلك بإن}: ابتداء وخبر، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة، وإلى الهلاك، كما قال: {وللكافرين أمثالها}، قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب {إن الله مولاهم}: أي ناصرهم ومؤيدهم، وأن الكافرين لا ناصر لهم، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر، وتركوا عبادة من ينفع ويضر، وهو الله تعالى.
قال قتادة: نزلت هذه الآية يوم أُحُد، ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم»، حين قال المشركون: إن لنا عزى، ولا عزى لكم.


{يتمتعون}: أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل، {ويأكلون}، غافلين غير مفكرين في العاقبة، {كما تأكل الأنعام} في مسارحها ومعالفها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح. والكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير المصدر، كما يقول سيبويه، أي يأكلونه، أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام. والمعنى: أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر، كما يقال للجاهل: يعيش كما يعيش البهيمة، لا يريد التشبيه في مطلق العيش، ولكن في لازمه. {والنار مثوى لهم}: أي موضع إقامة. ثم ضرب تعالى مثلاً لمكة والقرى المهلكة على عظمها، كقرية عاد وغيرهم، والمراد أهلها، وأسند الإخراج إليها مجازاً. والمعنى: كانوا سبب خروجك، وذلك وقت هجرته عليه السلام إلى المدينة. وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل: يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أوَ مخرجي هم. وقال ابن عطية: ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ، وقال: {أهلكناهم}، حملاً على المعنى. انتهى. وظاهر هذا الكلام لا يصح، لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج، بل إلى أهل القرية في قوله: {وكأين من قرية}، وهو صحيح، لكن ظاهر قوله حملاً على اللفظ وحملاً على المعنى: أي أن يكون في مدلول واحد، وكان يبقى كأين مفلتاً غير محدث عنه بشيء، إلا أن وقت إهلاكهم كأنه قال: فهم لا ينصرون إذ ذاك. وقال ابن عباس: لما أخرج من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة وقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليّ، فلو أن المشركين لم يخرجوني، لم أخرج منك، فأعدي الأعداء من عدا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله. وقيل: بدخول الجاهلية قال: فأنزل الله تعالى، {وكأين من قرية} الآية؛ وقد تقدّم أول السورة عن ابن عباس خلاف هذا القول.
{أفمن كان على بينة من ربه}: استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه، وهي معادلة بين هذين الفريقين. قال قتادة: والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش. انتهى. واللفظ عام لأهل الصنفين. ومعنى على بينة: واضحة، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات. {كمن زين له سوء عمله}: وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره. {واتبعوا أهواءهم}: أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة، فعبدوا غير خالقهم. والضمير في واتبعوا عائد على معنى من، وقرئ أمن كان بغير فاء. {مثل الجنة}: أي صفة الجنة، وهو مرفوع بالابتداء. قال الزمخشري: قال النضر بن شميل: كأنه قال: صفة الجنة، وهو ما تسمعون. انتهى. فما تسمعون الخبر، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة. وقال سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، وقدر الخبر المحذوف متقدماً، ثم فسر ذلك الذي يتلى.
وقال ابن عطية: وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه قيل: مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وكان ابن عطية قد قال قبل هذا: ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه. فههنا كذا، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعاً على هذه الصورة، وذلك هو مثل الجنة. قال: وعلى هذه التأويلات، يعني قول النضر وقول سيبويه، وما قاله هو يكون قبل قوله: {كمن هو خالد في النار} حذف تقديره: أساكن؟ أو أهؤلاء؟ إشارة إلى المتقين. قيل: ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية، كأنه قال: مثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف، {كمن هو خالد في النار}. ويجيء قوله: {فيها أنهار} في موضع الحال على هذا التأويل. انتهى. ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. قال: ومثل الجنة: صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبر من هو خالد في النار. وقوله: {فيها أنهار}، في حكم الصلة، كالتكرير لها. ألا ترى إلى سر قوله: التي فيها أنهار؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي: فيها أنهار، كأن قائلاً قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار.
وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: ما معنى قوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار}؟ قال: {كمن هو خالد في النار}. قلت: هو كلام في صورة الإثبات، ومعناه النفي والإنكار، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في مسلكه، وهو قوله: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين لهم سوء عمله}، فكأنه قيل: مثل الجنة كمن هو خالد في النار، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت: لم عري من حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت: تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول القائل:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن *** أورث ذوداً شصائصاً نبلا
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود، مع تعريته من حرف الإنكار، لانطوائه تحت حكم من قال: أتفرح بموت أخيك، وبوراثة إبله؟ والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أذن به، فكأنه قال: نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار. انتهى. وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب: {مثل الجنة} مبتدأ، واختلفوا في الخبر، فقيل: هو مذكور، وهو: {كمن هو خالد في النار}. وقيل: محذوف، فقيل: مقدر قبله، وهو قول سيبويه. وقيل: بعده، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير.
ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه. وكما قدم من على بينة، على من اتبع هواه، قدّم حاله على حاله.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة: آسن، على وزن فاعل، من أسن، بفتح السين؛ وقرئ: غير ياسن بالياء. قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمز. {لم يتغير}، وغيره. و{لذة}: تأنيث لذ، وهو اللذيذ، ومصدر نعت به، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر، وقرئ بالرفع صفة لأنهار، وبالنصب: أي لأجل لذة، فهو مفعول له. {من عسل مصفى} قال ابن عباس: لم يخرج من بطون النحل. قيل: فيخالطه الشمع وغيره، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير، وهو مما يذكر ويؤنث. وعن كعب: أن النيل ودجلة والفرات وجيحان، تكون هذه الأنهار في الجنة. واختلف في تعيين كل، فهو منها لماذا يكون ينزل، وبدئ من هذه الأنهار بالماء، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات، ثم باللبن، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم، ثم بالخمر، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم، فهو متأخر في الهيئة.
{ولهم فيها من الثمرات}، وقيل: المبتدأ محذوف، أي أنواع من كل الثمرات، وقدره بعضهم بقوله: زوجان. {ومغفرة من ربهم}: لأن المغفرة قبل دخول الجنة، أو على حذف، أي بنعيم مغفرة، إذ المغفرة سبب التنعيم. {وسقوا}: عائد على معنى من، وهو خالد على اللفظ؛ وكذا: {اخرجوا}: على معنى من يستمع. كان المنافقون يحضرون عند الرسول ويستمعون كلامه وتلاوته، فإذا خرجوا، {قال الذين أوتوا العلم}، وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له: {ماذا قال آنفاً}؟ أي الساعة، وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف، أي لم نفهم ما يقول، ولم ندر ما نفع ذلك. وممن سألوه: ابن مسعود. وآنفاً: حال؛ أي مبتدأ، أي: ما القول الذي ائتنفه قبل انفصاله عنه؟ وقرأ الجمهور: آنفاً، على وزن فاعل؛ وابن كثير: على وزن فعل. وقال الزمخشري: وآنفاً نصب على الظرف. انتهى. وقال ذلك لأنه فسره بالساعة. وقال ابن عطية، والمفسرون يقولون: آنفاً، معناه: الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى. انتهى. والصحيح أنه ليس بظرف، ولا نعلم أحداً من النحاة عده في الظروف. والضمير في {زادهم} عائد على الله، كما أظهره قوله: {طبع الله}، إذ هو مقابلهم، وكما هو في: {وآتاهم}؛ والزيادة في هذا المعنى تكون بزيادة التفهيم والأدلة، أو بورود الشرع بالأمر والنهي والإخبار، فيزيد المهدي لزيادة علم ذلك والإيمان به. قيل: ويحتمل أن يعود على قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يعجب به المؤمن ويحمد الله على إيمانه ويزيد نصرة في دينه.
وقيل: يعود على قول الرسول {وآتاهم تقواهم}: أي أعطاهم، أي جعلهم متقين له؛ فتقواهم مصدر مضاف للفاعل.
{أن يأتيهم}: بدل اشتمال من الساعة، والضمير للمنافقين؛ أي الأمر الواقع في نفسه انتظار الساعة، وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك؛ لأن ما في أنفسهم غير مراعى، لأنه باطل. وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة: {أن تأتهم} على الشرط، وجوابه: {فقد جاء أشراطها}، وهذا غير مشكوك فيه، لأنها آتية لا محالة. لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك، ومعناه: إن شككتم في إثباتها فقد جاء أعلامها؛ فالشك راجع إلى المخاطبين الشاكين. وقال الزمخشري: فإن قلت: فما جزاء الشرط؟ قلت: قولهم: {فأنى لهم}، ومعناه: أن تأتيهم الساعة، فكيف لهم ذكراهم، أي تذكرهم واتعاظهم؟ إذا جاءتهم الساعة يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذ لقوله: {يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} فإن قلت: بم يتصل قوله، وقد جاء أشراطها على القراءتين؟ قلت: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك: إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه. وقرأ الجعفي، وهرون، عن أبي عمرو: {بغتة}، بفتح الغين وشد التاء. قال صاحب اللوامح: وهي صفة، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات، بل في الأسماء نحو: الحرية، وهو اسم جماعة، والسرية اسم مكان. انتهى. وكذا قال أبو العباس بن الحاج، من أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين، في (كتاب المصادر) على أبي عمرو: أن يكون الصواب بغتة، بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن فيما تقدم. انتهى. وهذا على عادته في تغليظ الرواية.
{فقد جاء أشراطها}: أي علاماتها، فينبغي الاستعداد لها. ومن أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو خاتم الأنبياء. وروي عنه أنه قال: «أنا من أشراط الساعة» وقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان» وقيل: منها الدخان وانشقاق القمر. وعن الكلبي: كثرة المال، والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلة الكرام، وكثرة اللئام. {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}: الظاهر أن المعنى: فكيف لهم الذكرى والعمل بها إذا جاءتهم الساعة؟ أي قد فاتها ذلك. قيل: ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفاً، أي: فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما كانوا يخبرون به فيكذبون به بتواصله بالعذاب؟ ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، والمعنى: دم على عملك بتوحيد. واحتج بهذا على قول من قال: أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار. وفي الآية ما يدل على التواضع وهضم النفس، إذ أمره بالاستغفار، ومع غيره بالاستغفار لهم.
{متقبلكم}: متصرفكم في حياتكم الدنيا. {ومثواكم}: إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم. وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ومثواكم: إقامتكم في الأرض. وقال الطبري وغيره: متقلبكم: تصرفكم في يقظتكم، ومثواكم: منامكم. وقيل: متقلبكم في معائشكم ومتاجركم، ومثواكم حيث تستفزون من منازلكم. وقيل: متقلبكم بالتاء، وابن عباس بالنون.


كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو، وكانوا يستأنسون بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ. والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى. فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو، وفضح أمر المنافقين. والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم، ولذلك قال بعد {رأيت الذين في قلوبهم مرض}. وقال الزمخشري: كانوا يدعون الحرص على الجهاد، ويتمنونه بألسنتهم، ويقولون: {لولا نزلت سورة} في معنى الجهاد. {فإذا أنزلت}، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم، كقوله: {فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس} انتهى؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و{لولا}: بمعنى هلا؛ وعن أبي مالك: لا زائدة، والتقدير: لو نزلت، وهذا ليس بشيء. وقرئ: فإذا نزلت. وقرأ زيد بن علي: سورة محكمة، بنصبهما، ومرفوع نزلت بضم، وسورة نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمر: {وذكر} مبنياً للفاعل، أي الله. {فيها القتال} ونصب. الجمهور: برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله، وبناء وذكر للمفعول، والقتال رفع به، وإحكامها كونها لا تنسخ. قال قتادة: كل سورة فيها القتال، فهي محكمة من القرآن، لا بخصوصية هذه الآية، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وقيل: محكمة بالحلال والحرام. وقيل: محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز، نحو قوله: {على العرش استوى} {في جنب الله} {فضرب الرقاب}.
{رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك}: أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً. {نظر المغشي عليه}: أي نظراً كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت. وقيل: يفعلون ذلك، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة. وقيل: من خشية الفضيحة، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم. وأولى لهم: تقدم شرحه في المفردات. وقال قتادة: كأنه قال: العقاب أولى لهم. وقيل: وهم المكروه، وأولى وزنها أفعل أو أقلع على الاختلاف، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات. فعلى قول الجمهور: إنه اسم يكون مبتدأ، والخبر لهم. وقيل: أولى مبتدأ، ولهم من صلته وطاعة خبر؛ وكأن اللام بمعنى الباء، كأنه قيل: فأولى بهم طاعة. ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه، وإنما قال: ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه. وعلى قول الأصمعي: أنه فعل يكون فاعله مضمراً يدل عليه المعنى. وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال: قارب لهم هو، أي الهلاك. قال ابن عطية: والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار، لما معها من القوة، فيقول، على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان.
وهذه الآية من هذا الباب. ومنه قوله: {أولى لك فأولى} وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما: أولى لك انتهى.
والأكثرون على أن: {طاعة وقول معروف} كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين، إما الخبر وتقديره: أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل؛ وإما المبتدأ وتقديره: الأمر أو أمرنا طاعة، أي الأمر المرضي لله طاعة. وقيل: هي حكاية قولهم، أي قالوا طاعة، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون: {طاعة وقول معروف}، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة. وقال قتادة: الواقف على: {فأولى لهم طاعة} ابتداء وخبر، والمعنى: أن ذلك منهم على جهة الخديعة. وقيل: طاعة صفة لسورة، أي فهي طاعة، أي مطاعة. وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف. {فإذا عزم الأمر}: أي جد، والعزم: الجد، وهو لأصحاب الأمر. واستعير للأمر، كما قال تعالى: {لمن عزم الأمر} وقال الشاعر:
قد جدت بهم الحرب فجدوا ***
والظاهر أن جواب إذاً قوله: {فلو صدقوا الله}، كما تقول: إذا كان الشتاء، فلو جئتني لكسوتك. وقيل: الجواب محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر هو أو نحوه، قاله قتادة. ومن حمل {طاعة وقول معروف}، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه {عزم الأمر}، فاقفوا وتقاضوا، وقدره أبو البقاء فأصدّق، {فلو صدقوا الله} فيما زعموا من حرصهم على الجهاد، أو في إيمانهم، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم، أو في قلوبهم {طاعة وقول معروف}. {فهل عسيتم}: التفات اللذين في قلوبهم مرض، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها. وفي القراءة فيها، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة، واتصال الضمير بها لغة الحجاز، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير. وقال أبو عبد الله الرازي: وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب، وأنها لا يتصل بها ضمير قال: وأما قول من قال: عسى أنت تقوم، وعسى أنا أقوم، فدون ما ذكرنا لك تطويل الذي فيه. انتهى. ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط، وهو أن توليتم.
وقرأ الجمهور: {إن توليتم}، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول. وقال كعب، ومحمد بن كعب، وأبو العالية، والكلبي: إن توليتم، أي أمور الناس من الولاية؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنياً للمفعول. وعلى هذا قيل: نزلت في بني هاشم وبني أمية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن توليتم»؛ بضم التاء والواو وكسر اللام، وبها قرأ علي وأويس، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل.
وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم. وقيل معناه: إن تولاكم الناس: وكلكم الله إليهم؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال.
{وأن تفسدوا في الأرض} بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم. ويدل على ذلك {أولئك الذين لعنهم الله}. فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوباً إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين، كأنه يقول لهم: لنا علم من حيث ضياعهم. هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا؟ وقرأ الجمهور: {تقطعوا}، بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو، في رواية، وسلام، ويعقوب، وأبان، وعصمة: بالتخفيف، مضارع قطع؛ والحسن: وتقطعوا، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر، أي أرحامكم، لأن تقطع لازم. {أولئك} إشارة إلى المرضى القلوب، {فأصمهم} عن سماع الموعظة، {وأعمى أبصارهم} عن طريق الهدى. وقال الزمخشري: لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه، وخذلهم حتى عموا. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وجاء التركيب: فأصمهم، ولم يأت فأصم آذانهم؛ وجاء: وأعمى أبصارهم، ولم يأت وأعمامهم. قيل: لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار، فالعين لها مدخل في الرؤية، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى. ولهذا جاء: {وعلى سمعهم} {وجعل لكم السمع} ولم يأت: وعلى آذانهم، ولا يأتي: وجعل لكم الآذان. وحين ذكر الأذن، نسبت إليه الوقر، وهو دون الصمم، كما قال: {وفي آذاننا وقر} {أفلا يتدبرون}: أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم. {أم على قلوبهم أقفالها}: استعارة للذين منهم الإيمان، وأم منقطعة بمعنى بل، والهمزة للتقرير، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر، ولم يحتج إلى تعريف القلوب، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر. ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف، أي أم على قلوب أقفالها قاسية. وأضاف الأقفال إليها، أي الأقفال المختصة، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت، فلا تفتح. وقرئ: إقفالها، بكسر الهمزة، وهو مصدر، وأقفلها بالجمع على أفعل. {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة، وتبين لهم بهذا الوجه؛ فلما باشروا أمره حسدوه، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم ماتت قلوبهم. والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها.
وتقدم الكلام على {سوّل} في سورة يوسف. وقال الزمخشري: سول لهم ركوب العظائم، من السول، وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً.
انتهى. وقال أبو علي الفارسي: بمعنى ولا هم من السول، وهو الاسترخاء والتدلي. وقال غيره: سولهم: رجاهم. وقال ابن بحر: أعطاهم سؤلهم. وقول الزمخشري، وقد اشتقه إلى آخره، ليس بجيد، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة. واختلفت المادتان، أو عين سول واو، وعين السؤل همزة؛ والسول له مادتان: إحداهما الهمز، من سأل يسأل؛ والثانية الواو، من سال يسال. فإذا كان هكذا، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز. وقال صاحب اللوامح: والتسويل أصله من الإرخاء، ومنه: {فدلاهما بغرور} والسول: استرخاء البطن. وقرأ زيد بن علي: {سول لهم}: أي كيده على تقدير حذف مضاف. وقرأ الجمهور: {وأملى لهم} مبنياً للفاعل، والظاهر أنه يعود على الشيطان، وقاله الحسن، وجعل وعده الكاذب بالبقاء، كالإبقاء. والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني. قيل: ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميراً يعود على الله، وهو الأرجح، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله. وقرأ ابن سيرين، والجحدري، وشيبة، وأبو عمرو، وعيسى: وأملى مبنياً للمفعول، أي امهلوا ومدوا في عمرهم. وقرأ مجاهد، وابن هرمز، والأعمش، وسلام، ويعقوب: وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملى، أي وأنا أنظرهم، كقوله: {إنما نملي لهم} ويجوز أن يكون ماضياً سكنت منه الياء، كما تقول في يعي بسكون الياء.
{ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل}. وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول، والخلاف عليه بنصره ومؤازرته، وذلك قوله: {سنطيعكم في بعض الأمر}. وقيل: الضمير في قالوا للمنافقين؛ والذين كرهوا مانزل الله: هم قريظة والنضير؛ وبعض الأمر: قول المنافقين لهم: {لئن أخرجتم لنخرجن معكم} قاله ابن عباس. وقيل: بعض الأمر: التكذيب بالرسول، أو بلا إله إلا الله، أو ترك القتال معه. وقيل: هو قول الفريقين، اليهود والمنافقين، للمشركين: سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به، أو في بعض الأمر الذي يهمكم. وقرأ الجمهور: أسرارهم، بفتح الهمزة، وكانت أسرارهم كثيرة. وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: بكسرها: وهو مصدر؛ قالوا ذلك سراً فيما بينهم، وأفشاه الله عليهم. وقال أبو عبد الله الرازي: الأظهر أن يقال: والله يعلم أسرارهم، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه السلام، فإنهم كانوا معاندين مكابرين، وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم. انتهى.
{فكيف إذا توفتهم الملائكة}: تقدم شرح: {الذين في قلوبهم مرض}، ومبلغهم لأجل القتال. وتقدم قول المرتدين، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله. وتقدم: {والله يعلم إسرارهم}؛ فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيف عقب هذه الأشياء.
فقال الطبري: فكيف علمه بها، أي بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟ وقيل: فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول؟ وقرأ الأعمش: توفاهم، بألف بدل التاء، فاحتمل أن يكون ماضياً ومضارعاً حذفت منه التاء، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت. وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره. والملائكة: ملك الموت والمصرفون معه. وقيل: هو وقت القتال نصرة للرسول؛ يضرب وجوههم أن يثبتوا؛ وأدبارهم: انهزموا. والملائكة: النصر. والظاهر أن يضربون حال من الملائكة؛ وقيل: حال من الضمير في توفاهم، وهو ضعيف. {ذلك}: أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار؛ {بأنهم اتبعوا ما أسخط الله}: وهو الكفر، أو كتمان بعث الرسول، أو تسويل الشيطان، أقوال. والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه، فناسب ضرب الملائكة وجهه. {وكرهوا رضوانه}: وهو الإيمان بالله واتباع دينه. والكافر للشيء متول عنه، فناسب ضرب الملائكة دبره؛ ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين.

1 | 2